بين المطر والركام.. شتاء غزة يطرق خيام النازحين بلا رحمة
بين المطر والركام.. شتاء غزة يطرق خيام النازحين بلا رحمة
تغرس نيفين أبو زرينة قدميها الحافيتين في طين المخيم في حين تحاول يائسة أن توقف سيل المطر المتدفّق إلى خيمتها الممزّقة. تقف وسط بركة ماء باردة وقد التصق حجابها المبلّل برأسها، وتقول بصوت منهك لوكالة فرانس برس: "منذ الصباح وأنا أحاول إخراج المياه التي غمرت خيمتنا.. كل شيء ابتلّ؛ ملابسنا، فراشنا، ما تبقّى من حياتنا".
قريب لها يقف إلى جوارها، هو الآخر حافي القدمين، يدفع الماء بقطعة بلاستيكية، وكأنهما يخوضان معركة خاسرة أمام عاصفة كبرى من قدرتهما على الاحتمال.
في هذا المخيم المؤقت في قطاع غزة، وبعد ليلة من الأمطار الغزيرة، غمرت المياه آلاف الخيام التي يقطنها النازحون. المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل يؤكد أنّهم تلقّوا مئات النداءات منذ ساعات الفجر من عائلات انهارت خيامها أو امتلأت بالماء، فعدد الخيام المتوافرة لا يكفي، ونوعيتها لا تقوى على مواجهة شتاء غزة.
مخيمات لا تحمي
في قطاع غزة المحاصر بين البحر والصحراء، تهطل معظم الأمطار في الخريف والشتاء، لكن الخيم الهشّة التي نصبها الناس بعد الحرب على غزة لا تستطيع الوقوف في وجه المطر ساعة واحدة، وحتى بعد تخفيف بعض القيود على إدخال المساعدات، يبقى الواقع أشدّ قسوة، فالمواد الأساسية لإقامة مراكز إيواء مناسبة، مثل أعمدة الخيام القوية، لا تزال ممنوعة من الدخول، وما يدخل يكفي بالكاد لستر الأجساد، لا لستر كرامتها.
وعلى طرف المخيم المحاذي للمتوسط، يحاول رجل أن يرفع المياه عن سقف خيمته مستخدماً مقبض مكنسة، وفي الأماكن المنخفضة، تحوّلت الطرقات إلى مجارٍ من الوحل، وتراكمت المياه قبل أن تنجرف نحو البحر، أطفال يخوضونها بأقدام صغيرة ترتجف، والمياه تصل إلى مستوى الكاحل.
الناشطة إنعام البطريخي تقول إنها شعرت بالعجز عندما جاءت نساء تستغيث بها، فخيمتها هي الأخرى غرقت: "بماذا أساعدهن؟ بالكاد أستطيع حماية نفسي وأطفالي".
أما نورا أبو الكاس، فوجدت فراشها وبطانياتها وملابسها مبلّلة بالكامل، وتقول: "أرسل لي ابني قطعة قماش مشمّع، لكنها لا تردّ المطر. ما العمل؟ أين نذهب؟"
نعيش في مقبرة
في خان يونس، يجلس محمد شبات وسط الرمال بين القبور، حيث نُصبت خيمته وخيمة عائلته بعد الحرب، المطر والبرد يتسرّبان إلى الخيمة بسهولة، وكأنهما جزء من يوميات الأسرة.
يقول محمد بصوت متعب: "نعيش في مقبرة.. لدي طفل صغير، وهذه الخيمة لا تحمينا من البرد ولا المطر".
زوجته آلاء تجلس قرب موقد بدائي بُني من قطع إسمنتية، تحملق في السماء بقلق، وتقول: “الشتاء قادم.. والخيمة ليست مكاناً آمناً لأطفال صغار، والبرد يدخل من كل ناحية”.
وفي قطاع غزة حيث تهبط الحرارة ليلاً إلى ما بين 15 و20 درجة مئوية، يصبح أي انخفاض إضافي في الحرارة تهديداً لمن يعيشون بأجساد ضعيفة، في خيام ممزقة أو مراكز إيواء بدائية، ويكافحون أصلاً من أجل الغذاء والماء والدفء.
ومنذ اندلاع الحرب الأخيرة على قطاع غزة، تعيش المنطقة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها، وقد أدت العمليات العسكرية إلى تدمير أو تضرّر نحو 92% من المباني السكنية، ما أجبر أكثر من مليوني إنسان على النزوح المتكرر داخل مساحة صغيرة ومحاصرة.
تحت وطأة الحصار المستمر منذ سنوات، تقلّصت قدرة القطاع الصحي والخدماتي على الاستجابة للاحتياجات الأساسية، وحتى بعد تخفيف بعض القيود على إدخال المساعدات، لا تزال الخيام البلاستيكية والهشة المخصصة للإيواء غير كافية، ولا تقاوم المطر أو الرياح أو البرد، في حين يعتمد معظم السكان على المساعدات الغذائية والمياه المحدودة.
الشتاء في غزة ليس موسمًا مناخياً عادياً، بل امتحان بقاء مستمر، الخيام غير الآمنة، الطرق الموحلة، ونقص الخدمات الأساسية، تحوّل الحياة اليومية إلى معركة مع المطر والبرد والجوع والعطش، في ظل غياب البنية التحتية الفعلية، وغياب حلول عاجلة من قبل السلطات المحلية والدولية.











